هنالك عبارة تحذرنا غالبية نخبتنا من ذكرها، حتى لا تتهم بالسطحية والخفة، ألا وهى نظرية المؤامرة، والعياذ بالله، لذلك لا أرددها، نظراً لاقتناعى بنجاح «المؤامرة على نظرية المؤامرة»، وأعلل ذلك بأن الفجوة المعرفية الواضحة بيننا وبين الغرب المتقدم تدفع الكثيرين إلى طلب «الاعتراف الأكاديمى» بهم من مؤسسات هذه «الحضارة الغالبة»، وفقاً للتصور الخلدونى، ومن الموضوعية أن نذكر أن ما يسمى «بنظرية المؤامرة» لم يستكمل أسسه الفلسفية والمنهجية وصار «شماعة» لا موضوعية نخفى بها عيوبنا وراء تجاوزات غيرنا ضدنا.
وقد يناقش من هم أكثر منى تخصصاً إذا كان هذا الاستكمال ممكناً بالأساس أم لا، وبناء على ما سبق، أعتقد أن الدعوة إلى اللجوء إلى نظرية المباريات فى تحليلاتنا المختلفة، ربما يناسب سياق هذه التحليلات بالطبع.
وإذا كان هذا المقال لا يدافع عن نظرية يتفق على تهافتها الحالى، فما هو السؤال الذى يطرحه؟ إنه ببساطة: هل يوجد فى الغرب أيضاً صيغة version لنظرية المؤامرة، تتسم بنفس التهافت واللاموضوعية؟ أم أننا حيال خاصية عربية فقط؟ ويتبع ذلك سؤال منطقى، أو أظن كذلك: هل هى ظاهرة حديثة؟ أم أن لها أصولها القديمة وأمثلتها التاريخية الشهيرة؟ إذا ما اتفق القارئ معى على هذا الطرح، فليسمح لى بعرض رؤيتى التالية.
أستحضر كثيراً عبارة الشاعر البريطانى كبلنج، الذى قالها فى نهاية القرن التاسع عشر: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، باعتبارها معبَّرة عن الصيغة الغربية لنظرية المؤامرة، المتسمة بالفوقية والعنصرية معاً. كما لا أنسى عبارة القائد الفرنسى جورو، التى قالها بعد انتصاره فى ميسيلون عام 1920، حيث ركل صلاح الدين وصاح: «ها قد عُدنا يا صلاح الدين». وأرجو ألا يعد تذكرى للعبارتين تأكيداً لنظرية المؤامرة العربية إياها، رغم أننى أوردهما كعلامة على صيغة الغرب المتعلقة بها، التى أرى أن أصولها وتاريخها قد يكون أبعد منها بكثير، وتجلياتهما ممتدة حتى وقتنا الحالى بوضوح وجلاء.
والواقع أننى لا أشك لحظة واحدة فى أن القارئ يعرف مقدماً الأمثلة التى نسوقها فى هذا الصدد. ألم يوظف أمراء الحرب فى أوروبا الدين فى تجييش البسطاء للدفاع عن مقدسات تنتمى إلينا أكثر من انتمائها إليهم؟ سميت بالحروب الصليبية، ولا مانع عندى من تسميتها بـ«حروب الفرنجة»، رغم أنهم جاءوا يحملون الصليب. أذكر أننى سألت السفير الدنماركى إبان مشكلة الرسوم المسيئة، التى تطل من جديد بفيلم بذىء، هل زارت العائلة المقدسة أوروبا؟ أم جاءت إلى مصر؟ وأكدت له أننا لا نرضى بالإساءة إلى المسيح -عليه السلام- أو إلى أى رسول آخر. وماذا حدث للموريسكيين بعد سقوط الأندلس؟ ألم يتم الاعتداء على إنسانيتهم وحقوقهم وعقيدتهم، وتم قتلهم وطردهم؟ لا أعفى أنفسنا مما حدث للأندلس، التى مثلت تجربة حضارية رائعة فى التسامح والعيش المشترك. لكننى أتحدث عن ظلم عانى منه مئات الآلاف ممن لا ذنب لهم، ألم تكن هناك «نظرية مؤامرة» شديدة الفجاجة وراء المثالين السابقين؟
وإذا ما قفزنا إلى مرحلتَى الاستعمار والإمبريالية، ورسالة «الرجل الأبيض» الذى ارتأى أن له الحق فى العدوان والهيمنة واستغلال موارد الشعوب المغلوبة، مروراً بزرع كيان استعمارى استيطانى للصهيونية على أرضنا، هل نقر ذلك باعتباره كان ضرورة حضارية أم نعده نموذجاً «لغطرسة القوة» على حد قول الأمريكى الطيب فولبرايت؟ وماذا عن قواعد اللعبة التى وضعها الكبار للعولمة التى نكرر دائماً أنها جاءت لتبقى، ونطالب ببديل أكثر إنسانية لقواعد إدارتها؟ ثم نأتى إلى ثالثة الأثافى، الممثلة فى «حق التدخل» الذى دمر دولاً حولنا منذ أن حدث «الفظيع العربى» الذى سموه ربيعاً. ألا تعد منطلقات الرجل الأبيض والاستعمار والإمبريالية وحق التدخل تجليات لنظرية «مؤامرة غربية» شديدة التهافت إنسانياً وأخلاقياً؟ لماذا لا نسميها بذلك؟ أم أنها حلال على بلابل «الغرب» حرام على الطير من كل جنس؟
إن الغريب فى كل ما سبق أنه كان يمثل دائماً السيناريو الأسوأ، وليس السيناريو الوحيد الممكن، واستخدمت نظرية المؤامرة، غير الناضجة منهجياً كشماعة لتبرير عدوان «الحضارة الغالبة» من ناحية، ولتبرير خذلان وقصور «الحضارة المغلوبة» من ناحية أخرى. لقد عبَّرت عن ذلك فى دراسة قدمتها ضمن فعاليات مؤتمر للحوار العربى الأوروبى، نظمته الهيئة القبطية الإنجيلية بمصر وأكاديمية لوكوم الألمانية عام 2014، وعقدت بعض جلساته فى الاتحاد الأوروبى، حيث حضر السيد/ إلمابروك، الذى ذكرنى بعقلية «الرجل الأبيض»، تحدثت عن مفهوم «التاريخ البديل»، الذى فشلنا معاً فى أن يتحقق، ذكراً أن اعتراف الغرب بدور الحضارة العربية الإسلامية فى نهضته، «وحاضنية الأندلس» إبان ازدهارها، كان من الممكن أن يؤديا إلى مسارات أخرى للتاريخ. ولم أنسَ النقد الذاتى، أشرت فيه إلى التطرف الفكرى فى «جاهلية القرن العشرين» على سبيل المثال، حتى وإن كانت رد فعل، الضحية الغربية. وأكدت وما زلت أؤكد أن عولمة إنسانية بديلة يمكن أن تتجاوز الماضى، وتستفيد من دروسه فى بناء مستقبل أفضل للجميع، تختفى فيه مبررات وجود أية نظرية ناضجة أو متهافتة للمؤامرة.